يجمع المراقبون الدوليون على أن حظ الرئيس الأميركي جورج بوش العاثر الذي تدهور مؤخراً بشكل ملفت للنظر هو الذي أوصله إلى الوضعية التي جعلت خصومه يتجرأون عليه وحلفاءه يتهربون منه. وهذه الوضعية التي وصلها الرئيس لم تكن من تدبير أحد ، لا خصومه ولا أصدقائه ، وإنما من صنع يديه.
فعندما أخذ بوش بنصيحة المحافظين الجدد وقاد الولايات المتحدة إلى مغامرة عسكرية خطرة وغير محسوبة العواقب في العراق ، لم يضع في حساباته أن ذلك سيكلفها دفع ثمن باهظ من دماء أبنائها بفعل الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواتها العسكرية في مواجهة تنامي قدرات المقاومة العراقية ، ومن سمعتها بنتيجة الفظائع التي ارتكبها أركان بطانته ، ومن وزنها كدولة عظمى وتأثيرها على الساحة الدولية جراء انتهاكها للشرعية الدولية.
وكان من البديهي أن يرتد كل ذلك سلباً على الرئيس بوش نفسه ، الأمر الذي أدى إلى انهيار ثقة الشعب الأميركي بسياساته الداخلية والخارجية وتدني شعبيته إلى مستوى قل نظيره في تاريخ الرئاسة الأميركية . كما أدى إلى محاصرته قضائياً بعد اتهام أحد أبرز أركان إدارته بالكذب والتضليل ، واحتمال وصول التهمة إلى آخرين قريبين منه جداً من بينهم نائبه ديك تشيني.
ولعل ما تتناقله وسائل الإعلام من تفاصيل يومية حول مسلسل فضائح أركان إدارة الرئيس جورج بوش يكشف عن أن المشهد السياسي في واشنطن جعل مهاجمة الإدارة غنيمة ما بعدها غنيمة والنأي عنها فضيلة ما قبلها فضيلة . فبعدما كان محظوراً على أنصار هذه الإدارة في الكونغرس الذي يمثل السلطتين التشريعيتين الاقتراب من “حقول وبيادر” السياسات التي كانت حكراً عليها في ذروة اختيالها وجبروتها ، أصبح الآن بمقدور كائن من كان من هؤلاء الأنصار انتقاد هذه السياسات وإخضاعها للتشريح والعمل على تجريم أصحابها إذا لزم الأمر ، بنتيجة الوهن الذي أصابها . أما بخصوص الخصوم ، فقد بلغت الجرأة بهم حد الدعوة صراحة وجهاراً إلى البحث عن إمكانية توفر الأسباب القانونية التي تجيز لهم مناقشة مسألة إقالة الرئيس “في أقرب فرصة ممكنة” !! وعن الجنرالات وكبار الضباط فحدث ولا حرج ، إذ بلغت الجرأة عند بعض هؤلاء في وزارة الدفاع “البنتاغون” ووكالتي المخابرات المركزية والأمن القومي حد القيام بتشكيل غرفة عمليات سرية مهمتها مواجهة الرئيس ومحاولة إجباره على تغيير سياساته ، وبالأخص الأمنية منها .
كل المؤشرات تدلل على أن المعارضة التي تواجهها سياسات الرئيس في الكونغرس قد تجاوزت نطاق الخطب السياسية والكلام الإنشائي المنمق . وقد أكدت ذلك افتتاحية أخيرة لمجلة “نيوز ويك” الأميركية الشهيرة ، جاء فيها “أن عناصر بحث إقالة الرئيس جورج بوش بدأت تتوفر بسرعة” . وقد استندت المجلة المذكورة في تأكيدها إلى قيام بعض أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي المعارض بالدعوة علناً إلى بدء بحث مدى توفر الأسباب القانونية للقيام بخطوة الإقالة ، وإلى موافقة 54 في المئة من الأميركيين على مبدأ الإقالة “إذا ثبت أن الرئيس خرق القانون” ، ثم إلى دعوة الشيخ الجمهوري أرلين سبيكتر الذي يرأس اللجنة القانونية في مجلس الشيوخ إلى عقد جلسات استماع للتحقق مما إذا كان الرئيس قد خرق القانون !!
وعلى صعيد وزارة الدفاع “البنتاغون” ووكالتي المخابرات المركزية والأمن القومي ، يواجه الرئيس جورج بوش منذ أسابيع ما وصفه المراقبون في واشنطن بـ “التمرد الصامت” من قبل الجنرالات وكبار الضباط في هذه المؤسسات . وتمثّل”تمرد الجنرالات” طبقاً لما تناقلته تقارير أميركية في تشكيل غرفة عمليات غير معلنة انحصرت مهمتها بالعمل على نسف سياسات الرئيس الخاصة بالشؤون الأمنية . والجنرالات وكبار الضباط يسعون من وراء تشكيل هذه الغرفة إلى تجنيب الأميركيين تكرار هواجس حرب فيتنام التي بدأت تُطل برأسها من ذاكرة التاريخ !!
ولعل الأخطر في الأمر هو أن الجنرالات وكبار ضباط وزارة الدفاع “البنتاغون” ووكالتي المخابرات المركزية والأمن القومي قد شرعوا فعلاً في تنسيق معارضتهم للرئيس وإدارته مع أعضاء الكونغرس بشكل جاد ومستمر من خلال وضعهم أولاً بأول بالأمور غير القانونية التي تطالبهم الإدارة بتنفيذها ، مما يعني أن هذه الإدارة قد أصبحت بالفعل عبئاً على النظام السياسي الأميركي داخلياً وخارجياً . وعندما يبلغ الأمر مبلغاً كهذا ، تصبح التضحية بالأفراد ضرورة ملحة للحفاظ على المجتمع وإخراج النظام من أزمته . وهنا يمكن إعادة طرح السؤال من جديد: هل ينجح الجهد المنسق بين الكونغرس والمؤسسات الأميركية الأخرى وبالأخص العسكرية والأمنية في إقالة الرئيس بوش أو إجباره على الاستقالة بعد انتخابات الكونغرس النصفية في نهاية العام الجاري؟! سؤال ربما تحدد الإجابة عليه تطورات الأوضاع المتسارعة في العراق!!
محمود كعوش
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في الدانمرك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
19/1/2006