د. عمار بكار
11/07/2005
شهد الخميس الماضي حادثتين قاسيتين نتجتا عن فكر العنف الذي يربط نفسه بالإسلام: تفجيرات لندن ومقتل السفير المصري في بغداد. ردود الأفعال لم تختلف عن تلك التي شهدناها في المرات السابقة رغم مئات المقالات والمحاضرات وخطب النقد الذاتي. بعض المؤسسات الغربية الإسلامية أعلنت شجبها واستنكارها (وهذا طبعا تطور ممتاز مقارنة بالسابق)، والمؤسسات الدينية في العالم الغربي تغط في نوم عميق تنتظر قرارا رسميا ليستيقظوا، بينما كثير من الناس في الشارع ومنتديات الإنترنت يعلنون فرحهم وشماتتهم أو على الأقل التأكيد أن الغرب يستحق هذا نظير ما فعل، بينما آخرون غاضبون يشتمون كل ‘المتدينين’، ومجموعة من العقلاء خائفون لأنهم يعرفون أن الغرب لن يقف متفرجا بينما شبابنا ينطلقون لتجهيز مذبحة بعد أخرى.
هل نلوم الغرب إذا قرر فجأة التخلص التدريجي من كل العرب الذين يقيمون هناك بسبب كل المشكلات التي يأتون بها، ويستبدلون بهم عمالة آسيوية مثلا التي لم نسمع حتى اليوم أنها كانت سببا في جرائم إرهاب وليس لديها حساسياتنا الثقافية وهم أفضل منا على كل حال في الإنتاجية والإخلاص للعمل؟ وقبل هذا السؤال: هل يعقل أن كثيرا من الناس عبروا خلال اليومين الماضيين في منتديات الإنترنت وفي المجالس عن كون بريطانيا تستحق ما حصل بسبب مشاركتها في الحرب ضد العراق، وكأنه من حق هؤلاء المتطرفين قتل الأبرياء في بريطانيا، وبعضهم من أبناء جلدتنا، بسبب سلوك بعض قادتهم؟ إذا كان هذا المنطق مقبولا، فلا يفترض أن يلوم أحد الغرب إذا جاءنا بجحافله ليعاقبنا على ما ارتكبه بعض أفرادنا حين اعتدوا عليهم في عقر دارهم. لكن السؤال الأكبر الذي أريد طرحه هنا، هل يعقل أننا بعد لم نتعلم الدرس ونعرف أن ‘النوم العميق’ له ثمنه الكبير يوما؟
أنا لا أطرح هذا السؤال، لأنني أهتم بالدفاع عن الغرب، فالمؤسسات الغربية السياسية تصرفت بسلوك القوى العظمى تاريخيا، وتعاملت معنا كما يتعامل القوي مع الضعيف في لغة الغاب، وهي لغة العلاقات الدولية عبر التاريخ، وعلاج هذا لا يكون إلا بالبناء الحضاري الذي يسمح لنا بأن نكون أقوياء في هذا الميزان، ولا أقول هذا لأننا خائفون من رد الفعل الغربي، وهو ما يبرر أن كل الاستنكار ‘الإسلامي’ جاء ضد أحداث لندن، بينما لم يتحدث أحد عن مقتل السفير المصري في بغداد، وإنما أقوله لأن بناءنا الثقافي كله يقف حاليا أمام أزمة حادة نادرة من نوعها، وما لم نصح من ‘النوم العميق’ فإن الأمور ستتجه فقط للأسوأ، والله وحده يعلم إلى أين.
يجب علينا أن نعترف بأن مؤسستنا الثقافية آمنت بـ’الحرب’ حلا لمشكلاتنا، وهذا ينطبق على ‘المؤسسة الإسلامية’ و’المؤسسة الثورية’ و’المؤسسة القومية’ وغيرها، وظلت أدبياتنا خلال عقود طويلة من الزمن مرتبطة بـ ‘النصر على الأعداء’، الذين يقفون لنا بالمرصاد، أو الذين يغدرون بنا ويتآمرون علينا، وبـ ‘القضاء على’ الصهيونية والإمبريالية والخونة والعملاء وكل من يقرر العرب تعليق شماعة مشكلاتهم عليه. حتى أولئك الغاضبون على وجود فكر العنف، يعبرون عن غضبهم في المنتديات بحبهم ‘سحق’ المتطرفين، وتجد عباراتهم لا تخرج عن رصيد الآخرين الذين يرون ‘القتال’ الحل الوحيد لحل مشكلاتنا.
هذا كان البديل السهل للحديث عن بناء الحضارة والعمل الجاد للتميز والتقدم والمنافسة، ولذا استطاع الآسيويون الخروج من طوق الجهل والتخلف، بينما بقي العرب يراوحون أرجلهم بين الضعف والغضب والرغبة في الانتقام وتمني زوال الأعداء. الأعمال ‘الإرهابية’ هي نتاج فكرنا المبني على ‘العنف’، والإرهابيون هم أولئك الذين نفذوا ما تمناه الكثيرون من العرب يوما، وإن كان التنفيذ وضح لنا أن مخيلتنا المريضة لم تقدر نتائج حماقاتنا.
نحن أمام أزمة هائلة، لأننا لو قررنا يوما الخروج من دوامة العنف، حتى لا يلفظنا العالم يوما لكوننا الجرثومة التي تؤذي ولا تنفع، ولو قررنا يوما التخلص من الفكر الذي يجعلنا آلات ‘عاطفية’ سلبية حادة تعمل على الانتقام دون تفكير، ولو قررنا يوما أن نتحول إلى طريق البناء الحضاري، فهذا معناه أن عقولنا تحتاج إلى غسل كامل من بقايا الفكر القديم، وتحتاج إلى نظريات جديدة تشرح لنا كيف نحقق التفوق ونبني مكانتنا في العالم، ونحتاج إلى مناهج تعليمية جديدة، وتربية من نوع جديد، وإعلام جديد، وشوارع جديدة بثقافة مختلفة.
أحد أهم المعنيين بهذا التغيير هو ‘المؤسسة الإسلامية’ لأن ما يحصل يتم باسم الإسلام وإذا لم تستنفر المؤسسة رجالها من علماء الشريعة و’المشايخ’ و’الدعاة’ و’الملتزمين’ ليقفوا وقفة واحدة ضد أولئك القتلة، ليلفظوهم بكل ما يمكنهم خارج الإطار الإسلامي بشكل يقنع العالم بذلك، فإن الثمن قد يكون باهظا جدا، ومؤلما جدا، عندما نعرف أن هذه المؤسسة مرتبطة بعواطفنا وتفتي لنا بشأن كل سلوكياتنا اليومية.
من المسؤول عن انتشار ثقافة العنف بيننا؟ ربما كانت الحكومات العربية أو السلطة العثمانية أو احتلال فلسطين أو تخلف الثقافة أو الحركات الإسلامية أو أمريكا أو حتى تايوان وهونج وكونج، لا يهم ما السبب، بقدر ما يهم أن نعرف أن بناءنا الثقافي الحالي مرفوض وسيؤدي بنا لمصيبة بعد أخرى، ويحتاج إلى تغيير جذري مدروس وذكي وفعال ومتحضر.
أظن الكثير من القراء يعرف المشكلة التي أتحدث عنها، ويعرفون الحل الذي أطرحه، ويقفون معي منتظرين أن يعلق أحدهم يوما الجرس!!