رغم أن الدولة الأردنية تعيش مرحلة من البحث عن الذات في إقليم مضطرب، ولكن يؤخذ عليها أنها عظمت الاعتبارات الأمنية على حساب الأمن الناعم، الممثل بالحوار ومنح المزيد من الحرية التي تقود لحالة التضامن والسلم الأهلي والتقارب، وتلك معضلة وعقدة تواجه العقل السياسي الرسمي العربي في إدارته للأزمات.
قانون مكافحة الإرهاب الأردني والعودة للخلف
بقلم عمر عياصرة
29/8/2006
مجلة العصر
إبان عهد الملك حسين، وبعد أحداث نيسان في جنوب الأردن عام 1989، وما صاحبها من أعمال عنف وصدام مسلح، شهد الأردن بداية للتحول نحو الديمقراطية، رغبة منه في تجاوز الاحتقان الشعبي ودخول مرحلة جديدة، وشهدت عمان حراكاً ديمقراطياً يتسم بالزخم وحرية في الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، وصدرت في تلك الحقبة تشريعات تنظم العملية وتدفعها للأمام، وأُخرج السجناء السياسيين من المعتقلات، وسادت أجواء حوارية توحي بإمكانية البناء على التجربة والسير فيها نحو نموذج مثالي، وبات ينظر الجميع للتجربة الأردنية بعين الترقب والانتظار والتوجس أيضاً، كما حازت التجربة على احترام نسبي في الداخل والخارج.
من الطبيعي أن يواجه التحول الديمقراطي الأردني تحديات محتملة وكبيرة، فقد واجه معضلات بنيوية متجذرة في خصوصية الدولة الأردنية من ناحية، وفي طبيعة وتركيبة البنية الاجتماعية للشعب الأردني من ناحية أخرى، كما أطل التحدي الاقتصادي وضعف الموارد برأسه على هذه التجربة، وكان لمسألة الانتماء الوطني وحسم مسألة الهوية دوراً كبيراً في عرقلة عملية التحول الديمقراطي، سيما وأن هذه المسألة مرتبطة بشكل وثيق بمسار الأمور على الجانب الفلسطيني.
ـ الفترة من عام 1989 – 1993، يصدق عليها وصف الحقبة الذهبية والأكثر ديمقراطية وأمناً في تاريخ الأردن، تم فيها انتخاب مجلس نواب شرس، لا يسمح بتغول الحكومة على دوره وأداءه، ولا يستبدل شراء الشعبية بالمواقف المبدئية، وشهدت تلك الفترة نشاطاً حزبياً ومدنياً مشهوداً، وتحرك الإخوان المسلمون واليسار والوطنيون بحرية أكبر داخل أروقة التأثير الشعبي، وصدرت الصحف الأهلية، وخيل للبعض أن الأردن بلغ مرحلة النضوج وإمكانية الوصول لمفهوم تداول السلطة، وأن مسيرة الديمقراطية باتت عصية على الانتكاسة والعودة للخلف.
في الفترة التي تلت قيام دولة إسرائيل على التراب الفلسطيني، ساهمت الدولة الأردنية ممثلة بأجهزتها الأيدلوجية (التعليم والإعلام)، في بناء ثقافة رفض إسرائيل، واعتبارها كياناً مؤقتاً، وأن الصهيونية عدو مغتصب للحقوق (لا سلام معه ولا تفاوض)، الأجواء السابقة حكمت بمجيء الانتكاسة الأولى لمسيرة التحول الديمقراطي في الأردن، فقد وقّع الأردن اتفاقية سلام مع إسرائيل في وادي عربة، الاتفاقية صنعت هوةً وبوناً شاسعاً بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي، ولا يستقيم وفق نظرة الدولة الجمع بين استمرار الصعود الديمقراطي والرفض الشعبي للعلاقة مع إسرائيل، فجاءت حزمة القوانين والإجراءات التي تهدف لتمرير الاتفاقية وتكميم الأفواه المعارضة لها.
صدر قانون الصوت الواحد عام 1993، عنواناً لتحجيم المعارضة والقوى الإسلامية، وبالتالي تشكيل مجلس نيابي بمقاييس حكومية يمرر مستلزمات التسوية مع إسرائيل، وشكل ذلك منعطفاً في عملية التحول الديمقراطي، حيث إن السير في عملية التسوية ومشاريعها يستلزم أن ثمة قوى داخلية أردنية أصبحت تشكل عبئاً على الموقف الرسمي، ولم يعد بالإمكان السماح لها بالحركة الحرة، مما يدفع باتجاه تقليص هوامش الحرية والديمقراطية.
تلا ذلك أحداث الحادي عشر من أيلول وسقوط بغداد بأيدي الاحتلال الأمريكي، وانفراط عقد التسوية في فلسطين، وشكل مجموع ما سبق تحدياً آخر لمسيرة التحول الديمقراطي في الأردن، وجاء الاصطفاف الأردني مع الحملة الأمريكية في محاربة الإرهاب، ذلك الاصطفاف أدخل الدولة الأردنية في صراع مع قوى إسلامية كالقاعدة، وتعتقد هذه القوى أن الأردن شكل أداة أمنية متقدمة بأيدي الولايات المتحدة، موجهة ضد مشروعهم وحضورهم في المنطقة، مما جعل الدولة الأردنية ساحة محتملة لمواجهات وتفجيرات انتقامية (تفجيرات فنادق عمان 2006).
جملة الظروف والتطورات السابقة، حكمت باتجاه التضييق على الإنسان الأردني في حرياته وتعاطيه السياسي، كما كان لها الدور في ارتباك الأداء للدولة الأردنية ونزوعها نحو مزيد من التشدد، لاسيما أن الإقليم الذي يعيش فيه الأردن، أصبح على صفيح ساخن، حتى إن التركيبة الديموغرافية الحالية للأردن تشهد فوضى من الجنسيات يجعلها عرضة لاختراقات أمنية.
وقبل أيام أقر مجلس النواب الأردني، المنتخب وفق قانون الصوت الواحد، قانون أطلق عليه (قانون مكافحة الإرهاب)، حيث شكلت هذه الخطوة مزيداً من “المأسسة” والتقنين لمسيرة التراجع في التحولات الديمقراطية الأردنية، واتسم هذا القانون بروح الشبهة والضبابية في إعطاء صلاحيات للأجهزة الأمنية للاعتقال والحجز والاتهام، كما يعتبر أداة للتخويف موجه للقوى السياسية المعتدلة في تعاطيها مع المواقف القومية والإسلامية.
رغم أن الدولة الأردنية تعيش مرحلة من البحث عن الذات في إقليم مضطرب، ولكن يؤخذ عليها أنها عظمت الاعتبارات الأمنية على حساب الأمن الناعم، الممثل بالحوار ومنح المزيد من الحرية التي تقود لحالة التضامن والسلم الأهلي والتقارب، وتلك معضلة وعقدة تواجه العقل السياسي الرسمي العربي في إدارته للأزمات.